سمير جعجع رئيس عمرُه قصرُه
كنت أسمع عن سمير جعجع القائد والمقاتل الذي يحفل نضاله بمزيج من الرومانسية والغموض. لكن ثمة شيئًا جعلني أتوقف عند مساره، منذ حادثة إهدن التي أرادوا تحميله وزرها، إلى حرب الجبل التي أرادوا إحراق أوراقه في لهيبها، إلى حسابات السلطة التي أرادوا فرضها على أجندته الحافلة بهمّ المقاومة كي يبقى أمن المجتمع المسيحي فوق كل اعتبار. لقد مثّل سمير جعجع رمزًا يوحي بالثقة لي ولبعض المنزعجين من محاولات تأطير القوات اللبنانية التي أسسها بشير، ضمن معادلات السلطة السياسية التي لم تكن وطنية ألا بنسبة معينة، بقدر ما كانت ترتبط برهانات النفوذ في المنطقة الحرة.
كنت آنذاك رئيس فترة إخبارية ليلية في إذاعة لبنان الحر، عندما ضج الجو السياسي بالخلاف بين قيادة حزب الكتائب التي كان يهيمن عليها الرئيس أمين الجميل، وبين سمير جعجع، حول حاجز البربارة، على خلفية قرار الحزب بإزالته واتخاذ إجراءات عقابية بحق القائد الشمالي. وحينها تحدث جعجع لمجلة النهار العربي والدولي كما أذكر، فأعجبت بمنطقه، وأوردتُ بالتنسيق مع زميل آخر بعضًا من كلامه، الأمر الذي أثار اعتراضًا لدى إدارة الإذاعة، لا سيما وأنها اتخذت جانب الرئيس الجميل.
لم يتأخر سمير جعجع في إطلاق انتفاضة 12 آذار 1985 بالاتفاق مع إيلي حبيقة، في وجه قيادة فؤاد أبو ناضر ومن خلاله الرئيس الجميل.
وتعرفت لاحقًا إلى الحكيم شخصيًّا، وما زلت إلى جانبه، واحدًا من العديد من الرفاق الذين قد لا يُعجِب بعضهم أحيانًا قرار من هنا، أو يريدون منه موقفًا أشد صلابة من هناك، أو ينتظرون منه مبادرة معينة من هنالك. ولكن سرعان ما يقتنعون في الغالب بأنه كان على حق، وحتى لو لم تقتنع قلة قليلة، فإنه يبقى في نظرها القائد الذي يحظى بالثقة الكاملة، والذي لا يمكن أن يحيد عن المواقف الاستراتيجية والمبادئ والثوابت، والذي لم يترك شعبه ورفاقه في أحلك الظروف، بل فضل الاعتقال والظلم، ولم يلن أو يتراجع.
عندما حاول أن ينتفض بعض من لم يعجبهم قرار إعادة تأهيل العسكر، لا سيما ممن كانوا يوالون الحالة المتنية التي كان يمثلها بعض معاوني الرئيسالجميل، استغل هؤلاء غياب معظم الضباط والكوادر والعناصر في مخيمات إعادة التأهيل، فتقدموا من ساحل المتن نحو أدونيس وسيطروا على عدد من الدبابات ودخلوا مبنى الإذاعة، ثم حاولوا اقتحام مبنى المؤسسة اللبنانية للإرسال، فردتهم المجموعة الأمنية هناك، وسادت المراوجة؟
كنت في غرفة التحرير أتابع ما يحصل وأراقب الشباب من النافذة وقد افترش بعضهم الأرض مستندًا إلى الحائط، وقد علمنا بأن البلبلة سادت المشرفين عليهم بعد فشل الهجوم على المؤسسة اللبنانية للإرسال. ولم يمض وقت طويل حتى وصلت سيارة جيب نزل منها رجل طويل نحيف ومعه عنصران فقط، وتوجه الى العناصر المنتفضين ونهرهم قائلًا لهم: “شو بعدكن عم تعملوا هون”؟ لقد كان الرجل سمير جعجع بمهابته وسطوته الهادئة. بدا الشُّبان كمن أصيب بصدمة فارتبكوا و”تدربكوا” نزولًا وعلى عجل محتفظين بسلاحهم!
وعلى مرّ الانتفاضات كنت ازداد اقتناعًا بالحكيم، حتى جاء عصر الجنون السلطوي مع العماد ميشال عون، والذي بدأ بمعركة جس نبض في مرحلة أولى انتهت بعبارة “بيمون الجنرال”. وعندما أعلن حرب التحرير، عض سمير جعجع على الجرح بترفُّع وكِبَر، واتصل بالإذاعة، تحت وطأة القصف الذي جعلنا نلجأ إلى الطبقة الأرضية حيث الستوديوهات، وأبلغنا عبر الهاتف الأرضي آنذاك بالتالي:
“اعتبروا هذه المعركة معركتنا، واتخذوا تدبير الاستنفار العام وباشروا بث الأناشيد الوطنية والعسكرية”.
بالطبع انتهت حرب التحرير الى ما انتهت اليه، وكانت حرب الإلغاء، التي تعرضت فيها الإذاعة للقصف بعدما سيطر عون على ضبيه، فطلب الحكيم الانتقال إلى العذرا حيث انطلقت الإذاعة في بدايتها من دير مار بطرس وبولس، قبل أن ننتقل إلى إحدى الإذاعات الخاصة في عمشيت ريثما تنتهي معركة أدما.
مع نهاية الحرب وإقرار الطائف، سعى الحكيم الى احتواء الموقف وقاد الساحة المسيحية بفاعلية الى مقاطعة انتخابات 1992 والتي تحولت مقاطعة وطنية، أربكت نظام الوصاية ما دفعه الى الاقتصاص من سمير جعجع اعتقالا وحلا للحزب بعد تركيب سلسلة ملفات في حقه.
لم يتغير سمير جعجع في السجن، بل كانت ستريدا تقول “بدلًا من أن نعطيه معنويات، هوي اللي بيعطينا”. وقد توقف وكلاء الدفاع مرارًا عند صفاء ذهنه وقراءاته الصحيحة للمشهد السياسي على رغم قلة المعطيات المتوافرة لديه، بل إنه أذهلهم ببعض التوقعات والرؤى.
سمير جعجع بعد الاعتقال، رفض منذ اللحظة الأولى التصرف بتعال وكمنتصر، بل حرص الحرص كله على نجاح حركة 14 آذار، لكنه لمس تباعًا الاختلاف بينه وبين عدد من قادتها، ومع ذلك حاول وصبر ولم يكل أو يمل، لكن التردُّد وتبرير الليونة بالحرص على الوحدة والاستقرار، جعلوا سمير جعجع يعاني ويستقرئ بعض علامات التراجع والخسارة، وصولاً إلى تفكك 14 آذار، على الرغم من محاولاته للحفاظ على روحها ومبادئها.
لم يسحب سمير جعجع يده من أيادي الحلفاء، بل إن بعضهم فضل التملّص تدريجًا مغلِّبًا منطق التسويات والصفقات، ما ولّد مرارة عميقة لدى الحكيم الذي لم يفهم كيف تتم إطاحة فرصتين للتغيير بعد فوز 14 آذار بانتخابات 2005 و2009 على التوالي.
ولعل الخيبة المعبِّرة تمثلت بتشرذم 14 آذار في الانتخابات الرئاسية بعد نهاية عهد الرئيس ميشال سليمان، حيث كان تأييد تيار المستقبل أقرب إلى رفع العتب، فيما اتخذ وليد جنبلاط موقفًا محايدًا بترشيحه هنري حلو، فكان ما كان حتى وصول ميشال عون الى الرئاسة مع رغبة المكون الأكبر في 14 آذار في الخلاص.
قد يقول البعض إن سمير جعجع هو الأحق اليوم بالرئاسة لأنه رجل دولة وإصلاح وتنظيم ومؤسسات، لكن الحظ يخاصمه، أما الحقيقة فهي أن الحظ يخاصم لبنان الوطن والدولة، لأن سمير جعجع بهيبته ومبدئيته وقدراته التنظيمية، يستطيع حتمًا قيادة لبنان إلى بر الأمان، وفق رؤية جديدة توفِّر استقرارًا وازدهارًا مستدامين.
أنطوان مراد ـ مستشار رئيس حزب “القوات اللبنانية” لشؤون الرئاسة