26 تموز 2005 ـ 2024.. أنت الآتي ولن ننتظر آخر!
منذُ أن كلَّفكَ إبن عمِّكَ خليل جبران وعمَّتِكَ كاملة رحمة تكليفًا بشرّاويًا وجدانيًا إنسانيًا رجائيًا تولِّي قيادة حَملة الثأر لجميع أرواحه المُتمرِّدة من “راجي بيك الضّاهر” الذي اشترى طربوش زعامتِه بالمزاد العثماني العلني دافعًا ثمنه عدًا ونقدًا جرَّة ليرات ذهبٍ عثمليٍّ، وأنتَ مرفوضٌ مرفوض من جميع أشباه راجي بيك ومُتَّهمٌ رئيسيٌ بأنَّك أنت مَن أطلقتَ عواصف عقائديَّةً هوجاء هزهزت وخَلخلت حُجُبَ أبوابهم العاليّة واقتلعت من محمياتهم ومربَّعاتهم أوتادَ خيمة شيخ العشيرة ومضارب زعيم القبيلة وبدَّدت أزمنة السطو والاستيلاء على الأرض والعرض فهتف الشَّعب الجالس في مظالم ظُلمتِه المُزمنة بلهفة ولوعة الصَّوت الصّارخ: “أأنتَ هو الآتي أم ننتظر آخر”؟؟!
حكيم
أولاً أنتَ الابن “المُجرمُ” بحق والديه والدكَ الفريد بين الآباء وأمِّكَ ذات الأمومة المُكتسبةِ الإيمان بالفِدية التي دفعتها مريم الأمهات ثمنًا لأقدس وأسمى وأنبل وأشجع آيات البَذل والفداء: “ما مِن حبٍ أعظم مِن أن يبذلَ المُحبُّ نفسه عن أحبّائه وحتّى عن أعدائه”.. وأنتَ الإبن البار الأدرى بأنَّ أغلى وأعز أمنية عند أبو جوزف وأم جوزف يوم يغتبطون غبطة آباء وأمهات الوزنات الثمينات وأنتَ تدخل باب بيتكَ الوالدي مرتديًا رداء الطبيب الأبيض، وإذا بالوالد والوالدة يُعانون ما عانته مريم المرافقة لصليب فلذة كبدها يومَ صمَّمتَ أن تتطوَّع بكامل إرادتكَ حارسًا لجميع أبواب بيوت أهلك، أبواب بيوت وطن القداسة والحرية والسيادة والبطولة والشهادة، فلبستَ لباس “الذين يموتون ليحيا لبنان”!
أنتَ “المُجرم” الخيانيّ وقد خنتَ وخذلتَ دموع رفيقة عمرِك الحائزة على تاج ملوكية النُّبلِ والالتزام كي تعقد زواجًا أبديًا لا انفصال فيه ولا طلاق على وفائكَ لدماء وأرواح 15 ألف شهيد. خزَّنتَ في صميم أنفاسك ذخائر أنفاسهم الأخيرة فلاقيتهم إلى موضع الخطر الأشبه ببطن حوت يونان النبّي، لاقيتهم بأوفى وأنبل آيةٍ من عديد آياتِكَ: “يسواني ما يسوى رفاقي”، ثم شهرت غضبك المقدس على كل من استدرج عاطفتَك الحميمة ونصحك باستعمال حقوق اللجوء إلى أيَّة سفارة تؤمِّن لكَ الوصول المضمون، وتقدِّمُ لك قصرًا أوروبيًا آمنًا مُرهَّفًا تتصل منه بأنصارك تشحنُ عقولهم وقلوبهم وحماستهم العشوائية ببطولاتٍ وهميَّةٍ بنبرةِ صوتٍ مسرحيٍّ مدبلَج.. لكنَّك عند حلول تلك السّاعة الغدراسيَّةِ الرهيبة تركت رفاق عمرك وقلبك المذهولين يلطمون رؤوسهم بالحيطان، ثم وضعت مسبحتَك في عنقكَ راسمًا إشارة الصّليب… ومشيت!
وطيلة نِّيِّفٍ وإحدى عشرة عامًا عشتها حبيسًا للأرزة داخل محبسة اليرزة يومًا كنتَ ترتدي الإسكيم النسكي لابن أهلك الراهب شربل مخلوف البقاعكفري الحبيس كوكب جبل محبسة مار بطرس وبولس، ويومًا كنتَ تذَخِّرُ صمودَك بإسكيم إبن ربعكَ الراهب أنطونيوس شينا البقرقاشي الحبيس كوكب وادي قزحيّا، وكان يلاقيك يوميًا بصلواتٍ مسيحانيَّةٍ أنطونيوسيَّةٍ أفراميَّةٍ يُرسلها لك مِن معقلِه النُّسكي داخل محبسة مار بولا غبتا!
وأنتَ “المُجرم” الأخطر بحقِّ نفسِكَ وشخصكَ وحياتِك يوم ربطت مصيرك بمصير الصّاعدِ إلى جبل تاج الشوك والصَّلبِ بمسامير الأبعدين والأقربين، وحربةٍ تطعنُك من أمامك ومن خلفكَ من دون أن تنجدَك التَّرنيمة الفجيعة: “يا شعبي وصحبي أين عهد الإيمان”؟ مِن حزيران اهدن إلى أيلول الجبل إلى خريف الإقليم وشرق صيدا… أنتَ “مُجرمٌ” موصوفٌ بحقِّ صيتِك وسُمعتِكَ، لأنّكَ اقتنعت كامل الاقتناع بأنَّ لا خيانة الأسخريوطي المقرونة بالقبلة الغادرة والفضَّة القاتلة، ولا عدالة قيافا المدعَّمة بشهود الزور، ولا عرير شعب برأبّاس الذي برَّأ لصوصه وجرَّمَ أبطاله، قد أوجعوا ملوك الصِّلبان قادة دروب الجلجلة بقدرِ ما أوجعتهم تلك الصابونة النَّتنة الرائحة التي غسل فيها بيلاطس البنطي يديه ولسانه وضميره ..
على الرغم من عداواتٍ بينهم، فأنتَ من وحَّدتَ آل البكويات وآل المشيخات وآل الإمارات، فأجمعوا على وضعكَ في مصاف “حامل خطايا العالم”!!
يا حكيم
ليس من صدفةٍ في مواضع ومواعيد الروح القدس، فكم هو شبيه يوم 21 نيسان 1994 بيوم أسر عمِّك أب عام رهبانية المقاومة اللبنانية الأباتي أفرام أبي رعد جعجع وحجزه داخل السفارة البابوية ثمَّ إخراجه رهبانيًا وكنسيًا من رهبانيتِه ونفيه طيلة 15 عامًا إلى جزيرة قبرص بإخراجٍ روائيٍّ مُستوحى من رواية عداء قايين لأخيه هابيل.. وذلك بتهمة مساندتِه الأبوية والرهبانية الصَّريحة لقائد المقاومة اللبنانية زمن القرن التاسع عشر يوسف كرم المُتَّهم الأخطر بضراوة مقاومته للاحتلال العثماني لأقداس الوقف اللبناني، وما تزال تلك العصا التي فجَّ بها الراهب القيدوم الأب جبرائيل موسى السّبعلي رأس ممثل السلطنة العثمانية المتصرف رستم باشا إحدى أهم ذخائر نفائس دير مار أنطونيوس قزحيّا وإحدى أهم علامات أزمنة ثورة الأرز..
أمَّا يوم 26 تموز 2005، فهو الأقرب مكانًا وزمانًا لليوم الذي عاد فيه أفرام الرهبان المقاومين من منفاه القبرصي إلى رهبانيتِه وديره القزحيّاوي ومنه إلى مجاورة أبيه أنطونيوس الكبير المُنتصر على أبواب الجحيم!!
حكيم
من 26 تموز مخيم بلّا صيف 1975 إلى 6 تموز 1976 معركة تحرير الكورة وشكّا.. وبارودة طوني فهد جعجع التي كانت أكثر طولاً من حاملها الذي أكمل سنته الخامسة عشرة شهيدًا قفز من صخور جبهة سرايا أميون كي تُحيطَ به ملائكة السَّماء، وما زال اسمه حتى اليوم من أبرز أسماء ثكنة لبنان الجديد.
ونحن نقترب من يوم 26 تموز 2024 لا ندري يا رفيق الرفاق كيف يتحكَّم فينا حنين دائمٌ شغوفٌ إلى صورٍ لكَ تعود بعقولنا وقلوبنا وذاكراتنا إلى عصرنا الزيتي المبارك وأولئك الرهبان الذين يرتدون أساكيمهم الزيتية ويتسربلون بدمائهم المحفوظة في كؤوس قداديس دير مار شليطا. هذه الأساكيم وهذه الكؤوس نتباركُ منها ونستشفعها كي نبقى حرّاسًا لا يداهمهم أيُّ نعاسٍ وظائفيٍ منافعيِّ ولا تغويهم وجهنات رئاسات المراكز والأجهزة.. وفي أعناقنا قدسية أمانتنا على حراسة مقر قائدنا الأول والمُلهمُ القدوة والأمثولة مار يوحنا مارون، كما أمانتنا على رمح أبينا ورأس شهداء بطريركيتنا المقاوِمة وإنَّكم يا حراسنا عُصاةٌ أُباةٌ لا تنبهر عيونُكم بانفلاش أضواء ثريّات صالونات وصالات مجتمع لويس الرابع عشر وأنتم مَن تحظون بنعمة عيونٍ ممسوحةٍ بزيت قناديل ومصابيح حبساء محابسنا. كما أنَّ مناقبيَّتكم وهمَمَكم ونخوتكم الموصوفة أمنع من أن تُصابُ بعين النمرة الزَّرقاء!!
حكيم
من 26 تموز 1975 إلى 26 تموز 2005 إلى 26 تموز 2024… أنتَ هو الآتي ولن ننتظر آخر!!!
كتب ميشال يونس في “المسيرة” ـ العدد 1754